مأدبا .. مدينة الحفر المنسيّة

الموضوع بقلم الاستاذ محمود الحويان الله يعطيه العافية في جريدة الدستور العدد رقم 14850 الخميس 27 رمضان 1430هـ الموافق 17 أيلـول 2009

ان الداخل لمأدبا ، ولا اعتقد ان احدا من بعيد ، او حتى من اطرافها ، يرغب بالدخول اليها ، الا مكرها ، او مضطرا ، وما ان ينتهي من قضاء حاجته ، حتى يبحث عن طريق آمن له ولسيارته ، وينفذ بريشه ، وكان الله في عون اهلها.

مدينة كانت آمنة مطمئنة ، وشوارعها تستوعب سياراتها ومشاتها ، وامورها طبيعية ، يسير فيها الطالب والشيخ والعجوز ، ساكنها وزائرها وسائحها ، فتشعر انك لا يضيق صدرك بشيء ، بل انك تستمتع وانت تتجول في ميادينها ، وتنظر الى مآذن مساجدها وكنائسها ، واهلها الطيبين ، وتقول سلام على اسرتها الوادعة المتآلفة.

الا ان مصيبة حلـّت بمأدبا ، واعني هنا ما اقول ، انها مصابة بفيروس فرض عليها ، نخر شوارعها ، وجعلها محفرة ، واقسم انني لم ار لون الاشجار ابيضا الا في مأدبا ، ومهما كان حذاؤك ، فلن تخرج من مأدبا ، حتى تقول في نفسك ، ساخلعه عند مغادرتي ، ولست نادما عليه.

انا ايها السادة ، اتحدث عن غياب الوعي ، والتنظيم والهندسة المفيدة لتلك المدينة السياحية ، التي اصبحت طاردة لكل ما له علاقة بالسياحة ، نعم ، ان الداخل لمأدبا من جميع اركانها ، يشعر انه يسير في حفر متلاحقة ومتقاربة وعميقة ، ولا تصلح لاي نوع من السيارات ، ولا لاي نوع من الاقدام.

كنا نسير من دوار البلدية ، باتجاه الشارع الرئيس ، نحو احدى الاشارات الضوئية ، وكان التحريث بل التخريب ، قد حجز ثلثي الشارع رصيفا للمشاة ، وبقي الثلث بل اقل ، لمسرب واحد فقط للسيارات.

وراء احدى السيارات التي كانت تسير خلفنا ، وقفت سيارة اسعاف ، وقد اطلقت بوقها للفضاء ، تبحث عن منفذ لتمر ، وكان طابور السيارات امامنا واقفا ، لاكثر من ربع ساعة ، اولا لضيق الطريق ، وثانيا لكثرة الحفر ، وازدحام السيارات.

عند ارساء أي عطاء او مشروع ، خاصة حين يكون في قلب المدينة ، فان اهم بند ينظر اليه ، بالاضافة الى المواصفات ، هو عنصر الوقت ، نعم ان الالتزام بالوقت والتنفيذ بطريقة محترفة وغير عشوائية ، ضروري ، وينعكس ايجابا على الجميع ، ثم من قال ان المدينة كلها بشوارعها وازقتها ودواراتها تحفر في وقت واحد؟.

اليس من الاجدى والمعقول ، ان نقسّم المدينة الى مربعات او مناطق ، يبدأ العمل فيها وينتهي تماما ، ثم يتم الانتقال الى مربع او قسم اخر ، بدل تحويل المدينة برمتها ، الى مقلع كبير للحجارة.

لقد سبقتنا لبنان عندما بلـّطت اهم شارع في بيروت ، وهو شارع الحمرا ، وخصصته لأشهرْ للمشاة فقط ، ثم ما لبثت ان احست ان التجربة غير مجدية ، فعادت السيارات تسير فيه والمشاة ايضا ، وسعته الان تستوعب الاثنين ، رغم كثافة السيارات ، وشدة الازدحام.

ربما يقول احدهم ، ان الحكومة لا تتحمل من ميزانيتها شيئا ، فيما يتعلق باعادة ترميم شوارع مأدبا ، وانها منحة من احدى الدول ، التي جادت علينا بمساعداتها ، واقول هذا جميل ، لكن لماذا لا نفصّل الثوب بما يناسبنا ، ويتماشى مع الغاية ، بدل العشوائية في التخطيط ، وعدم الاكتراث بالانجاز.

اليس في هذا المشروع مهندس اردني ، او مرجعية اردنية ، ليرى ويسير بسيارته ، ليدرك معاناة الناس كل الناس ، التي لا تنتهي ، وكانه مرض عضال اصاب المدينة ، والكل يدعو الله ان تشفى منه ، وتتعافى ، وتعود الى سابق عهدها ، ووالله انه كان افضل الف مرة ، مما هو عليه الان.

ما من شك ان الاهتمام في الارصفة للمشاة وخاصة للاقدام الزائرة الغريبة ، واجب وتقتضيه مصلحة تشجيع السياحة ، لكن هل يعقل ، ان يؤخذ ثلثي الشارع للرصيف ، ويترك مسرب واحد فقط للسيارات؟ ماذا لو تعطلت سيارة؟ او حصل حادث بان ارتطمت سيارة باخرى؟.

تحدثت الى اكثر من مواطن ، واكثر من سائح ، ولم يكونوا راضين عما يجري ، او على الاقل ، بالطريقة التي تسير بها الامور ، وجلست مع احدى السيدات ، وكانت من فرنسا ، وتتحدث الانجليزية وزوجها ، فقالت هناك في بلادنا ، تتم الامور بالتجزئة ، أي مرحلة مرحلة ، ومنطقة منطقة ، يتم اغلاقها ، وتحويل حركة السير فيها حتى تنتهي.

مأدبا جميعها حفر وورشات عمل وكومبريسرات وعمال وغبار يملأ الوجوه ، و مأدبا هواؤها رمل ، يدخل الانوف رغما عنها ، مأدبا اشجارها بيضاء ، وكأنها تقول لقد شيّبنا هذا الحال ، وهذا الصداع الذي لا ينتهي.

ترى من هو المسؤول عما يجري في شوارع مأدبا ؟ وهل يتابع ذلك ، من خلال خرائط يفردها على طاولته النظيفة داخل مكتبه في عمان؟ ام انه يتابع العمل على هاتفه النقال ، فيسمع على الخط الاخر ، احد المقاولين او المتهندسين يقول له "كلشي" تمام ، وماشيين ضمن الخطة والاتفاق.؟

ان التطوير مطلوب ، والتماشي مع مصلحة المدينة حق ، لا ينكره احد ، بل ان الجمال يحبه الله والناس ، لكن صدقوني ، ان ما رايته وسرت فيه من شوارع وميادين ، يوحي فقط انني اسير في المكان الذي هوت فيه ابراج نيويورك قبل عدة سنوات ، عندما كان الغبار في كل مكان ، والركام ايضا .

لكن ربما مع فارقين بسيطين ان الحطام هناك ، لم تكن للمدينة يد فيه ، بل كان كارثة حلت عليها ، واشغلتها لسنوات ، حتى تعيد لها النظافة مما حصل ، وثانيا ان هناك رقابة صارمة ، فالتنفيذ على قدم وساق ، ولا وقت يمر دون متابعة.

انني ادعو المسؤولين ان يمروا في شوارع مأدبا هذه الايام ، وان يلبسوا ملابس رياضية بسيطة ، وان لا يهتموا كثيرا باناقتهم ، وان يكون في صندوق السيارة دراجة هوائية ، لان تعطل السيارة ، يعني بقاءها في مكانها لساعات ، لانه لا مخرج على الاطلاق ، فالشارع بحجم السيارة.

اما الارصفة ، فانكم لن تجدوا سياحا يسيرون عليها على الاطلاق ، الا من الغبار المتراكم فوقها ، وبعض المواطنين ، الذين ينظرون للمكان ، ويقولون ان هذا تخريب متعمد ، وهدر للمال ، ايا كان مصدره ، وليس فيه من الاعمار شيء.

ثم اختم بان انقل سؤالا على لسان اهلها ، يقول ، ترى متى تنتهي مأساة المدينة؟؟.

يعطيك العافية أخ محمود ...فعلا تعبيرك عن المشكلة رائع ومعبر...وياليت المسؤولين يسمعوا... هم مش طرش أكيد بس القصد يسمعوا ويتنبهوا ويشتغلوا من ضمير..........