كلما مرّ واحد من كبار القرية قرب بئر مليح، عادت إليه ذاكرة قديمة، مسكونة في هذه الأرض، وما حولها، فيكون الحنين إلى تاريخ قديم، معتق بقصص الناس هنا.
ولقد جلست مع بعض أهل مليح في بيت شعر منصوب، أمام مدخل بيت من الحجر، والأشجار تزنّر البيتين، وتستعيد تلك القصص التي أخذ كبار القرية يرددونها في جلستهم تلك.
أتذكر تلك الكلمات، الآن، وأنا أكتب روايتهم، وأعززها بما يتوفر لدي من وثائق، وجدتها في بطون الكتب، التي لم تفصل بين التاريخ الاجتماعي لأهل مليح، وبين تاريخ جبل بني حميدة، والعشائر الموجودة فيه، ليكون المدخل إلى تفاصيل القرية، والعائلات التي تسكنها، هو من العودة إلى تاريخ بني حميدة، وتتبع سيرتهم التي أتيح لي الإطلاع عليها، مرة من بوح أفراد العشيرة، ومرات أخرى من صفحات الكتب، والمخطوطات المتاحة للإطلاع.
الرواية الشعبية
الجلسة كان تضم الحاج فهد زعل القبيلات(أبو ضيف الله)، وعيد سعد الغويين، وسرور العجالين(أبو شريف)، وحمد زعل القبيلات(أبو محمد)، وكانت الأحاديث تدور بالتناوب بينهم، حيث كان كل واحد يذكر الآخر، ويضيف على تلك الرواية المستعادة حول ذاكرة المكان والإنسان في هذه المنطقة.
كبار القرية قالوا عن تواجدهم في مليح، بلهجتهم الطيبة، وبكلامهم البسيط، فكان حديثهم عن التواجد في مليح على هذه الشاكلة: '' القبيلات كانوا بالجبل(جبل بني حميدة)، في منطقة واسعه يقولوا إلها بدوية، اللي اتسمت هسّا (الزهرة).. ويوم تقاسمت بني حميدة الأغوار، والمناطق الثانية، قالوا: (عدّ رجالك وِرد الماء). فالقبيلات وِردوا من بدوية للحمام (سيل الحمام بالهيدان)، يعني زي هيك: عالنقوية، على عين عياد، على جناب، على الخص، على السيل(سيل الحمام) لحدود القلعمة.. ولأنه لما تقاسموا كانت مليح راس كوم، وماهي لأي حدا من الناس.. وحط الإيد عليها أبو اربيحه، وأول ما استملك بأطراف الأرض كان السنيد.. وقالوا هذه القرية فيها مطمع، والقبيلات أهل خيل، فاجوا ورحلوا عليها، وتركوا أراضيهم، وخشّوا القبيلات فيها على بير مليح.. قال الفواضله: (كيف الراي، وهذه مليح راس كوم، وهي للي يحماها). فصار الحكي انه
انت يا ابن نافع، وابو سماره، واللي معهم الخضور والشبيلات والصبيحات، وغيرهم، انتو تروحوا وتحموا مليح، وصاروا مع القبيلات، يد واحده، ومعهم خشوا السنيد، وبعدين خشوا الغويين والسواعده، وغيرهم، وكان كل هذا يصير بموافقة أبو اربيحه، واتوسعوا للرميل، ولورا الطويسه، وراحو بالاتجاه الثاني وخذوا لرجم الملاحي، وصارت معارك بينهم وبين بعض القبايل الثانية من خارج الحمايده، فرحلت هذيك القبايل، وتركوا هذه البلاد''.
''أهل حضارة.. وأهل الناقة''
يتحدث الشاعر سرور العجالين(أبو شريف)، بعضا من الرواية الشعبية حول جذور بني حميدة قائلا: '' كان من القبايل القديمة اللي سكنت الشام قبل الإسلام قبيلة بني جذام، وهم من قحطان، وبني حميدة يرجعوا لهذي القبيلة بعد هيك، وهذول بني حميده نخوتهم (السيّاح)، لأنهم زمان أول عاشوا بوادي السيّاح بالحجاز.. المهم لما اجا الإسلام كان كبيرهم اسمه فروه بن عمرو الجذامي، وهذا بعث له الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وقال له أنه ودّو يفتح البلاد، ويدعوه للإسلام، فأسلم فروه الجذامي، واسلم معه ربعه من الجذام، وكشفوهم الرومان، وقتلوا فروة، وصلبوه وهو حي، وشتتوا الجذاميين، وهذول لأنهم اسلموا هربوا للحجاز، فالرسول بعث الهم من أصحابه، يعني زي لجنه تقيم الوضع، وتشوف حل الهم، ويتفقدوهم، فقسموهم بعد هيك، يعني قسموهم بحسب انه منهم ناس أهل ناقه، وهذول خلّوهم بتبوك، وناس منهم أهل حضارة، يعني يزرعوا، ويفلحوا، وهذول حطوهم بمنطقة بين الطائف وقباعة''.
رحلة العودة
يغيب التاريخ فترة من الزمان، حيث يصل الراوي بعد ذلك إلى مرحلة ما بعد الفتوحات الإسلامية، ودخول بلاد الشام، وصولا إلى اللحظة التي استقرت فيها كل بلاد الشام بيد المسلمين، وهنا يقول الراوي أبو شريف: '' كرّت الجيوش للشام، وانتصر الإسلام، لكن بعد هيك ظلت البلاد اللي كان فيها بنو جذام، فاضيه، فقال المسلمين لازم نسكن الناس فيها، فقالوا لبني حميده، وهذول أخذوا هذه التسمية من الأخلاق الحميدة بعد ما أسلموا، أو انه واحد من كبارهم، وجدودهم بهذاك الزمان اسمه حميد، والله أعلم.. المهم انه بني حميده قالوا ودنا نرجع للطفيلة، هذه البلاد اللي كانوا فيها قبل ما يخرجوا للحجاز، وبعدين كان فيه قبايل ثانيه، فاجوا كمان قالوا لقبيلة العنزه، اللي كان جزء منهم اللي شيخهم المهداوي، انتوا اسكنوا من سيل الموجب لوادي عموريه، وجو لقبيلة عقبة اللي منها العمرون وقالوا حدودكم من سيل الموجب، وجنوب. وقالو للرْوَقَه(ابن روق)، انتو حدودكم من وادي عموريه لسيل حسبان.
هذه القسمة صار بين الناس عليها حروبات ونزاعات، وهان نصل لمليح، حيث انه لما وصلوا لهالمناطق، وانه جاي بدوي منهم، واسمه مليح، وهذا يلاقي البير هذا(بير مليح)، ويكتشفه، وانه بير نبع، فورد عليه العنزه، ولكن الطرف الثاني أجا واعترض، وصارت سواليف طويلة بين الأطراف، المهم بالخلاصة، صار في قَظوه، وصار فيه حكم، ورجع الروقه لحدودهم الأصلية، لكن العنزه ما رضوا بالحكم، وقامت ودارت الحرب بينهم، وفيه دلايل على هذه الحرب حتى الوقت الحاضر، حيث انه لما تحاربوا ذبحوا سليم بن روق، وفيه منطقة للآن شرق ذيبان، اسمها رجيم سليم، والكبار كانوا يتواعدوا هناك، فيقولوا (الميعاد رجيم سليم). وبعد هيك يذبحوا المهداوية صياح بن روق، وفيه كمان شرق ذيبان مكان اسمه رجيم صياح''.
جبال البستان
يكمل كبار القرية ما تبقى من تلك الرواية الشعبية حول تقسيمات المناطق، والنزاعات، والتقلبات التي صارت في منطقتهم، مما سمعوه، حول الفترات الماضية، ويقولون: '' فيه قبيلة بلي، وهذه سلموها المسلمين المياه، وسكنوا البلاد هذه، ولهم مقامات، ومزارات، وآثار في كل المناطق، ومنها مقام جرو في مليح.
وتوجد حجارة منقوش عليها محماسه، وهذه تكون حدود بلي، وكمان في دور قديمة فيها حجارة في زاوية حجر، وهي طق بالصخر، وهذه علامة لبلي كمان. وهذول بلي هم أهل ناقة، فراحوا للصحرا، وظل بقية الناس في هذه المناطق.
وبالنسبة للحمايده، ظلوا في الطفيلة، ولكن لما صارت فيه مشاكل هناك، قام كبير بني حميده في الطفيلة، وكان اسمه فاضل، قال روحوا احموا جبال البستان(جبل بني حميدة الآن)، وكان في بالجبل سكان، فطلعوهم من هناك، وقسم من بني حميدة قعد بالجبل، وقسم بذيبان(الكورة)، وقسم بالكرك، وقسم ظل بالطفيلة''.
جذام.. وادي السيّاح
بعد هذا السرد للرواية الشعبية التي يحفظها أهل القرية حول بني حميدة، وما يتعلق بمليح، والمناطق التي تنتشر عليها هذه العشائر، لا بد من العودة إلى الوثيقة المكتوبة، والبحث العلمي الذي يتقاطع في بعض جزئياته مع الرواية الشعبية، بينما يضيء في جوانب أخرى مساحات كانت غائبة في القصة الشعبية المروية.
نعود إلى رسالة الماجستير في التاريخ لمحمد نويران ابنية القعايدة، والتي عنوانها (مأدبا وجوارها 1311-1366هـ/1893-1946م)، حيث يقسم فيها عشائر المنطقة التي تشملها دراسته إلى قسمين رئيسيين وهما سكان أصليون، وسكان وافدون، ثم يقسم السكان الأصليون إلى عشائر المسيحية، وعشائر المسلمين.
تحت عنوان العشائر المسلمة يبدأ الباحث بكتابة تفاصيل حول عشائر بني حميدة، حيث يقول في مقدمته عن قبيلة بني حميدة، بأنها تعد من أقدم القبائل التي سكنت منطقة الأردن، ولعبت دورا لا يقل صلابة في الأحداث السياسية عبر الفترات التاريخية من الدولة العثمانية، ويستشهد على ذلك بمقولات، ونصوص من المؤرخين الذين عرّفوا بقبيلة بني حميدة.
وبالعودة إلى فريدريك بيك في كتابه (تاريخ شرقي الأردن وقبائلها)، يشير إلى أن قبيلة تدعى الحميد، وهي بطن من الغزية، من هوزان، يسكنون في جبال السروات بين نجد وتهامة.
وذكر القلقشندي، في كتاب قلائد الجمان في التعريف بقبائل عرب الزمان، أن قبيلة الحميدين من بطون أولاد نجيب من هلبا سويد، من جذام، ومنازلهم الجوف، وقبلة الأحامد من جرم طي، ومنازلهم بلاد غزة، والأرجح أن بني حميدة، هم الحميديون من هلبا سويد، من جذام، وأنهم قدموا إلى شرقي الأردن من وادي السيّاح في شمال الحجاز.
كما أن الروائي الباحث سليمان القوابعة، في الجزء الأول من كتابه (الطفيلة.. موجز في جغرافيتها التاريخية)، ذكر أنه في عام 628م قدمت وفود جذامية برئاسة رفاعة بن زيد على الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة، ودخلوا الإسلام. وجذام قبائل عربية تعود إلى كهلان، عاشت إلى جانب قضاعة في جنوب الأردن، وخاصة حول الطفيلة، لكثرة ينابيع المياه، ويرجح أن تكون عشائر بني حميدة من جذام.
وقد أشار محمد جميل المدني، في الجزء الأول من كتابه (جواهر التاريخ الأردنية الفلسطينية العربية)، أن بني حميدة هم من بطون نجيب بن هلبا من سويد من جذام، ومنزلهم الجوف، قدموا من وادي السياح في شمال الحجاز إلى الطفيلة ثم إلى الكرك ثم إلى البلقاء، وجدهم هو جذام.
ســـيرة قريـــة
تقع مليح في محافظة مأدبا، ضمن قضاء مليح، في لواء ذيبان.
تبعد حوالي 13 كيلو متر عن مدينة مادبا، و35 كلم جنوبي عمان، وتتبع إداريا إلى بلدية لب ومليح.
الديموغرافيا
يبلغ عدد سكان مليح حوالي 5745 نسمة (2845 ذكور و 2900 إناث) يشكلون 998 أسرى، تقيم في 1182 مسكنا. ومعظم سكانها يعملون في الزراعة، والوظائف الحكومية.
التربية والتعليم
توجد في مليح 7 مدارس هي: مدرسة مليح الثانوية الشاملة للبنين، ومدرسة مليح الشاملة للبنات، ومدرسة الراشدية الأساسية المختلطة، ومدرسة مليح الأساسية للبنين، ومدرسة مليح الأساسية للبنات، ومدرسة مليح المثلث الأساسية المختلطة، ومدرسة السواعدة الأساسية المختلطة.
وهناك مدرستان تحت الإنشاء، بتبرع من الديوان الملكي الهاشمي، واحدة تحتوي على 8 غرف صفية، والثانية تحتوي على 15 غرفة صفية.
الصحة
يوجد في القرية مركز صحي أولي.
المجتمع المدني
يوجد في القرية نادي مليح الرياضي، وجمعية شابات مليح الخيرية، وجمعية مليح الخيرية، وجمعية المحبة لتأهيل ذوي الاحتياجات الخاصة، وجمعية النبأ التعاونية، ومركز خدمات اجتماعية تابع للصندوق الهاشمي.
ويتم الآن بناء مركز شابات، ومركز شباب، في مليح بتبرع من الديوان الملكي الهاشمي.
* يوجد في مليح 8 مساجد، ومقبرة إسلامية.
دعوة للمشاركة
هذه الصفحة تؤسس لكتابة متكاملة حول القرى الأردنية، وتطمح لتأسيس موسوعة جادة شاملة. ولن يتأتى هذا بجهد من طرف واحد، فما يكتب قد يحتاج إلى معلومات للإكتمال، أو قصص أخرى لم يلتقطها الكاتب في زيارة واحدة، وهي مفتوحة للإضافة والتعديل قبل أن ترتسم بشكلها النهائي لتكون وثيقة لكل قرية، والأمل بأن تأتي أية إضافات أو تصويبات أو معلومات أخرى من أهل القرى والمهتمين مع اقتراحاتهم، وعلى هذا العنوان:
بوح القرى
ص. ب - 6710 - عمان -11118
فاكس- 5600814
بريد الكتروني
alqora@jpf.com.jo