زفت فتاة أردنية من أصل فلسطيني إلى عريسها الفلسطيني المقيم في مدينة غزة بعد دخولها إلى قطاع غزة بطريق غير متوقع على الإطلاق وذلك عبر أحد الأنفاق في حكاية اقرب إلى الخيال . فالشابة تمكنت من العودة إلى موطنها الأصلي، بعد ارتباطها بشاب غزي، ولم تكن سبيل العودة سوى أحد الأنفاق الممتدة بين قطاع غزة ومصر. إنه الخيار الوحيد الذي تبقى لها بعد أن أُغلقت كل الطرق في وجهها، لتكمل مسيرة حياتها مع زوجها في غزة المحاصرة مع علمها أنها قد لا تغادرها مرة أخرى وقد لا ترى عائلتها ثانية.
وُلدت إيمان (24 عاماً) في الأردن، وعاشت وتربت وترعرعت هناك، وأكملت دراستها الجامعية في تخصص تربية الطفل. وحينما كانت هذه الشابة طفلة صغيرة قامت بعدة زيارات مع والدها لمسقط رأسه في الخليل، لكنها لم تطأ أرض غزة من قبل.
لم يكن يدور بخلد إيمان أنّ قدرها سيسوقها للارتباط بشاب من قطاع غزة المحاصر منذ ثلاث سنوات، والذي يتعرض لعدوان مستمر كانت ذروته مطلع السنة الجارية، في الحرب الضارية التي استشهد فيها 1400 مواطن والآلاف من الجرحى.
روت العروس إيمان تفاصيل حكاية رحلتها عبر النفق دون الكشف عن شخصيتها وعنوانها ، وهي تُزفّ إلى عريسها بعد انتهاء الحرب بقليل، لتصل إلى غزة متجاوزة كل العقبات والحدود وتلتقي بنصفها الآخر.
فقبل الحرب بثمانية أشهر تقدم شاب يدعى وائل لخطبتها من والدها، وذلك من خلال أقربائه الذين يعيشون في الأردن. فكان الرفض السريع والقوي من قبل والدها، نظراً لأنّ عريسها هو من غزة، المنطقة المنكوبة في نظره، وكيف سيمكنه أن تبعد ابنته الصغيرة عنه في هذا القطاع المحاصر، والذي يعيش سكانه ظروفاً صعبة للغاية لا يمكن لبشر تحملها.
حلم
الرفض لم يكن نهاية المطاف بالنسبة للأب، أما بالنسبة لإيمان فكانت البداية فقط. لقد حلمت بأن ترتبط بشاب مثل وائل، بعدما عرفت من هو لاحقاً، وأن تعيش في قطاع غزة الذي لطالما سمعت عنه وعن أهله من صمود وتضحيات.
وبعد تكرار طلب خطوبة إيمان مرات ومرات من قبل أقرباء وائل؛ وافق أهلها على مضض، بشرط أن يكون سفرها إليه بطريقة آمنة ورسمية، حتى لا تتعرض لأي مخاطر، وكي يضمنوا رؤيتهم لها مرة أخرى.
وبعد الخطوبة التي تمّت عن بُعد لم تنته معاناة إيمان، فقد بدأت فصول جديدة من مواجهة الواقع المرير، حيث اختبار الالتحاق ببيت الزوجية في غزة. كثيرون من محيطها الاجتماعي في الأردن استغربوا هذا الاقتران الذي بدا مستحيلاً للوهلة الأولى.
فصل جديد
وتقول إيمان عن هذه المعاناة «عندما أخبرت إحدى صديقاتي المقرّبات مني بأنني سأرتبط بشاب غزي، جرحتني بقولها حينما قالت لي: «كيف يرضى أهلك أن يرموك هذه الرمية»، وتضيف «منذ تلك اللحظة قرّرت بألاّ أخبر أحد بأنني سأرتبط بشاب» من هذه المنطقة المحاصرة.
ومع بداية الحرب على غزة، نهاية شهر كانون الأول (ديسمبر) الماضي، عاشت إيمان فصلاً جديداً من فصول المعاناة، وهو خوفها على خطيبها أولاً، ومن ثم خوفها من تراجع والدها عن الخطبة وفسخها، بعدما رأى ما حدث في غزة، ولكنّ الأمور سارت على نحو أفضل.
فقد قالت إيمان والابتسامة ترتسم على وجهها «عند حدوث الحرب على غزة ازداد الاتصال بخطيبي وأهله من قبل أهلي للاطمئنان عليهم، وكنت أجتاز حالة نفسية سيئة للغاية، ولكنّ والدي فاجأني حينها بأنه موافق بشكل نهائي على ارتباطي بهذا الشاب، بعدما كان متردداً في ذلك قبل الحرب».
وأضافت العروس «بعد انتهاء الحرب وانتصار غزة، وبعدما شاهد أهلي وكل العالم قمة الصمود والصبر لأهل غزة؛ استصغرنا جميعاً أنفسنا أمام القمم الموجودة فيها، وحينها قال لي والدي: أهل غزة ضحوا بأبنائهم ومنازلهم وكل ما يملكون وأنا أخاف عليك وأرفض أن أزوجك من شاب غزي!، فأقسم خلالها بأن يوصلني لخطيبي بأي طريقة، فقال لي: سأرسلك لزوجك وما سيحدث لمليون ونصف المليون يحدث لك».
ووافق والد العروس
وأكملت إيمان مستذكرة حديث والدها «الجميع يتبرّع لغزة بالمال والمعدّات، ولكني أنا سأتبرع لها بفلذة كبدي وأصغر بناتي، لأزوِّجها لأحد شبابها، فلن أجد أحداً يخاف على ابنتي مثلهم أبناء غزة الذين قدّموا أرواحهم وأغلى ما يملكون وهم يدافعون عن أرضهم وعرضهم وكرامة هذه الأمة». وأضافت إيمان «حينها قام والدي بالاتصال بخطيبي وهنّأه بنصر غزة، وأخبره أنه موافق بشكل نهائي على زواجنا لكن بدون أن يدفع أي مهر».
وطلب والد إيمان بعد ذلك بدء الإجراءات لعقد القران، حيث وكّل وائل أحد أقاربه مطلع شهر شباط (فبراير) 2009، وتم عقد قرانهما في بيت والد إيمان بالأردن، لتبدأ أولى خطوات العروس في طريقها إلى غزة المحاصرة، كي تُزفّ إلى عريسها.
وقالت إيمان «قام وائل بالسعي هنا وهناك للحصول على جواز سفر لي أو حتى لم شمل، وعلى الرغم من سعيه الدائم إلاّ أنّ محاولته باءت بالفشل، وبعدها قرّرت أن آتي إلى غزة عبر أحد الأنفاق، رغم علمي بالمخاطر التي تحفّ تلك الخطوة، لاسيما في ظل القصف المكثف لهذه الأنفاق والذي لم يتوقف حتى بعد انتهاء الحرب»، كما شرحت.
وأضافت العروس «كان الحدث الأصعب على نفسي هو كيف أخبر والدي بالأمر، ولكن وبعد تساؤلات كثيرة بيني وبين نفسي، قرّرت أن أخبره بهذه الفكرة، فرفضها أهلي رفضاً قاطعاً بداية، ولكن وبعد إصراري على ذلك أقنعت والدي بالأمر ووافق على ذلك».
الإعداد لرحلة النفق
بعدما قطعت إيمان هذه المسافة في إقناع والدها بالموافقة على أن تذهب إلى زوجها عبر أحد الأنفاق بين غزة ومصر، بدأت مرحلة جديدة من مراحل معاناتها، لكنها المرحلة الحاسمة التي ستكفل لها الوصول إلى غزة.
وتستذكر العروس شريط رحلتها الشاقة من عمّان إلى غزة، فتقول «قمت بتجهيز أغراضي الخاصة وحقيبتي، وكنت على يقين بأنني سأصل إلى غزة، فكانت الصلاة والدعاء وتوكلي على الله سبب يقيني». وتابعت إيمان «خرجت أنا ووالدي وزوج أختي يوم السبت السابع من شباط (فبراير) الجاري من الأردن إلى القاهرة، وعند وصولنا القاهرة التقينا بأحد معارف وائل الذي كان قد رتّب ذلك جيداً، ثم خرجنا إلى رفح المصرية عند الحدود، وكانت الطريق طويلةً، فقد قطعنا بالسيارة حوالي خمسمائة كيلومتر ، وكانت الحواجز منتشرة على طول الطريق، فكان كل حاجز يبعد عن الآخر حوالي كيلومترين اثنين على طول الطريق للعريش، أما رفح المصرية فكيلو واحد كان يفصل بين كل حاجز وآخر».
وتشرح العروس ما جرى معها بالقول «على طول الطريق التي أخذت منّا يوماً كاملاً، كان المصحف والدعاء يصاحبني، وعند أحد الحواجز أوقفنا الأمن المصري ووجّه إلينا بعض الأسئلة، وأخبرناهم بأننا نتجه إلى رفح المصرية لزيارة عمتي هناك، فسمحوا لنا بمواصلة الطريق».
وتابعت إيمان «كان الأمن المصري في ذلك اليوم ينتشر بشكل غير طبيعي على الطريق، نتيجة لاكتشافهم نفقاً في تلك الأوقات، وسمعنا في تلك الأثناء دوي انفجارات شديدة، وكنت أشعر في تلك اللحظات بتأنيب الضمير لأنني جعلت والدي يمرّ بكلّ هذه الصعاب لأجلي».
وتكمل إيمان سرد رحلتها فتقول «وصلنا إلى منزل في رفح المصرية، وتم استضافتنا به، ورأيت هناك معاناة حقيقية يحياها أهالي رفح المصرية نتيجة لوجود الأنفاق. ففي ذلك المنزل تواجدت عدة نسوة، جميع أزواجهن مطلوبون للأمن المصري نتيجة لوجود الأنفاق، فسمعت في ذلك المنزل البسيط الكثير من القصص، وكان أكثرها تأثيراً في نفسي حال تلك الزوجة التي تماثلني العمر ولديها طفلان صغيران لكنها منذ أكثر من شهرين لم ترَ زوجها نتيجة لملاحقة الأمن المصري له»، حسب روايتها.
وانتقلت إيمان بعد ذلك إلى فصل آخر من فصول رحلة المعاناة، حيث انطلقت هي ووالدها من المنزل الذي استضافهم إلى المنزل الذي يوجد به النفق، وتقول «سرنا مسافة خمس دقائق، ولكنها بالنسبة لي كانت مسافة طويلة جداً، خمس دقائق من خوف ورعب شديد، كنت كل ما أخشاه أن يعتقلنا الأمن المصري، فكان هذا هو كل ما يدور في مخيلتي في تلك اللحظات».
وبتنهيدة تنمّ عن راحة بعد عناء؛ تكمل إيمان قولها «أخيراً وصلنا، فأنزلوني داخل النفق، فكان كالقبر تماماً لا فرق بينهما، حيث المكان مظلم، لم أرَ شيئاً، فكنت حافية القدمين، وفي آخر النفق كان ضوءٌ خافت أكاد لا أرى شيئاً منه، فإذا بعريسي وائل يظهر وسط هذا النور الخافت، ينتظرني ليكون اللقاء الأول معه في هذا النفق المعتم».
وتابعت إيمان رواية ما جرى في تلك اللحظات الدقيقة من حياتها «في هذه اللحظة سلمني أبي إلى يد وائل، وأوصاه بيّ كثيراً، وقمت بوداع أبي وانطلقت برفقة وائل. وفي نهاية النفق التفتّ خلفي فوجت والدي يتبعني، فبكيت كثيراً وبكى والدي في تلك اللحظات، وقرّر أن يذهب معي إلى غزة، ولكن نتيجة لإلحاح الجميع عليه للعودة عاد من النفق نفسه الذي أتينا منه».
في رفح الفلسطينية
إلى هنا لن تنتهي فصول حكاية إيمان مع وائل، فتكمل العروس قائلة «من فوهة النفق قاموا بإنزال حبل لمسافة 15 متراً، فكان الحبل بشكل دائري كالأرجوحة، فجلست عليه وقاموا بسحبي إلى أعلى، وأخذت أتخبط بجانبي النفق وأنا أصعد، قبل أن أتنسم هواء قطاع غزة، وأخيراً خرجت إلى النور، فإذا أنا في مدينة رفح الفلسطينية».
وتابعت العروس التي ربما تكون قد دخلت التاريخ في زفافها الاستثنائي هذا «في تلك اللحظات كان هناك صوت طيران (إسرائيلي) وقصف شديد على الشريط الحدودي في منطقة ليست بعيدة عنّا، ولكن بحمد الله انتقلنا إلى السيارة التي سارت بسرعة كبيرة جداً نتيجة للقصف الجوي، وأقلّتني إلي بيتي الجديد».
بعد وصول إيمان إلى غزة والتقائها بزوجها وائل؛ أصر الأخير على أن يقيم لها حفل زفاف في المدينة، رغم أنّ أوضاع الناس صعبة، فكل بيت فيه شهداء وجرحى وآلام. وأضافت العروس أنه تم زفافهما في حفل حضره أقارب وائل، وكانت في قمة السعادة، «ولكن تمنيت لو كانت والدتي ووالدي وأخواتي إلى جانبي، ولكن تم تصوير الحفل بالفيديو وأرسلت نسخة منه إلى عائلتي».
أول ما شاهدت وأول ما سمعت
وعن أول ما رأته في غزة؛ تقول إيمان «أول شيء سمعته هو صوت الطيران والقصف، وأول شيء وقع نظري عليه هو صور الدمار والخراب والبيوت المهدمة، وشاهدت أيضاً استخدام أهالي غزة أدوات الطهي القديمة كالبابور ، بالإضافة للبطالة المنتشرة في صفوف الشباب نتيجة لحصار غزة».
وأضافت العروس «الجميع تآمر على غزة التي مر سكانها بمحن لو تعرّضت لها دول عظمى لانهارت في يومين، ولكنّ غزة صبرت رغم كل ما تعرّضت له، ورغم أنّ الجميع سعى لأن يحوِّل هذا الشعب إلى متسول؛ لكني رأيت العزة بوجوه أطفال غزة، بالإضافة إلى التكافل الاجتماعي بين الأسر الغزية بشكل كبير لا يوجد لدى أي مجتمع من المجتمعات»، حسب ملاحظاتها.
وفي ما إذا كانت تخشي الموت في غزة؛ قالت إيمان «الموت حقيقة لا مفرّ منها، وعندما ينتهي الأجل سأموت سواء في غزة أو في أمريكا أو الأردن أو في أي دولة أخرى، ولكني عندما أموت في غزة شهيدة يكون أشرف لي من أموت مقهورة أبكي أمام شاشات التلفاز على أبناء غزة».
أما عن كيفية تواصلها في الوقت الحالي مع أسرتها بعد مرور أكثر من أسبوعين على تواجدها في غزة فتقول «أتواصل مع أهلي عبر الإنترنت والهاتف، ووالدتي تقول لي إنني أخاف على أختك الموجودة عندي في الأردن ومطمئنةٌ عليك أنت الموجودة في غزة».
إيمان المتخصصة في تربية الأطفال، تدعو الله أن ترزق بـ»الذرية الصالحة»، كي تربيهم تربية على حب الوطن، مؤكدة أنه «لا توجد بيئة أفضل من غزة لتعلم بها أبناءها كيف يكونوا رجالاً».
المصدر : الحقيقة الدولية – القدس المقدسية-28.2.2009